أيها الدعاة ..هل من معتبر
في إحدى المدن بالمملكة كانت هناك امرأة تسكن مع زوجها وأولادها و بناتها في إحد الأحياء ، وكان المسجد ملاصقاً لبيتها تماماً إلا أنَّ الله ابتلاها بزوج سكير .
لا يمر يوم أو يومين إلا ويضربها هى وبناتها وأولادها و يخرجهم إلى الشارع ، كان أغلب من في الحي يشفقون عليها و على أبنائها و بناتها إذا مروا بها ، ويدخلون إلى المسجد لأداء الصلاة ثم ينصرفون إلى بيوتهم و لا يساعدونها بشئ و لو بكلمة عزاء ، وكم كانوا يشاهدون تلك المرأة المسكينة و بناتها وأولادها الصغار بجوار باب بيتها تنتظر زوجها المخمور أن يفتح لها الباب ويدخلها بعد أن طردها هي وأولادها و لكن لا حياة لمن تنادي ، فإذا تأكدت من أنه نام جعلت أحد أبنائها يقفز إلى الداخل و يفتح لها ، و تدخل بيتها و تقفل باب الغرفة على زوجها المخمور إلى أن يستيقظ من سكره ، و تبدأ بالصلاة و البكاء بين يد الله عز وجل تدعو لزوجها بالهداية و المغفرة .
لم يستطع أحد من جماعة المسجد بما فيهم إمام المسجد و المؤذن أن يتحدث مع هذا الزوج السكير وينصحه ، ولو من أجل تلك المرأة المعذبة وأبنائها لمعرفتهم أنه رجل سكير ، لا يخاف الله ، باطش ، له مشاكل كثيرة مع جيرانه في الحي ، فظ غليظ القلب ، لا ينكر منكراً ولا يعرف معروفاً ، وكما نقول بالعامية ( خريج سجون ) ، فلا يكاد يخرج من السجن حتى يعود إليه .
الزوجة المسكينة كانت تدعو لزوجها السكير في الثلث الأخير من الليل و تتضرع إلى الله بأسمائه العلى ، وبأحب أعمالها لديه أن يهدي قلب زوجها إلى الايمان ، وأكثر أيامها كانت تدعو له بينما هي وأبناءها تعاني الأمرين فلا أحد يرحمها من هذا العناء غير الله ، فلا أخوة ؛ ولا أب ؛ و لا أم ؛ يعطف عليها ؛ الكل قد تخلى عنها ، و الكل لا يحس بها و بمعاناتها فقد أصبحت منبوذة من الجيران و الأهل بسبب تصرفات زوجها .
في إحدى المرات وبينما هى تزور إحدى صديقاتها في حي آخر مجاور لهم تكلمت و فتحت صدرها لصديقتها و شرحت لها معاناتها و ما يفعله بها زوجها و ببناتها وأبناءها إذا غاب تحت مفعول المسكر ، تعاطفت معها قلباً وقالباً و قالت لها : اطمئني ، سوف أكلم زوجي لكي يزوره وينصحه ، وكان زوجها شاباً صالحاً حكيماً ، ويحب الخير للناس ، ويحفظ كتاب الله ، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر . فوافقت بشرط أن لا يقول له بأنها هي التي طلبت هذا حتى لا يغضب منها زوجها السكير و يضربها و يطردها من البيت إلى الشارع مرة أخرى لو علم بذلك ، فوافقت على أن يكون هذا الأمر سراً بينهما فقط .
ذهب زوج صديقتها إلى زوجها بعد صلاة العشاء مباشرة لزيارة زوج تلك المرأة و طرق الباب عليه فخرج له يترنح من السكر ، ففتح له الباب فوجده إنسان جميل المنظر ، له لحية سوداء طويلة ، ووجه يشع من النور و الجمال ، ولم يبلغ الخامسة و العشرين من عمره . و الزوج السكير كان في الأربعين من عمره ، على وجهه علامات الغضب و البعد عن الله عز وجل ، فنظر إليه و قال له : من أنت و ماذا تريد ؟
فقال له : أنا فلان بن فلان ، وأحبك في الله ، و جئتك زائراً .
ولم يكد يكمل حديثه حتى بصق في وجهه و سبه و شتمه ، و قال له بلهجة عامية شديدة الوقاحة : لعنة الله عليك يا كلب ، هذا وقت يجىء فيه للناس للزيارة ، انقلع عسى الله لا يحفظك أنت وأخوتك اللي تقول عليها .
كانت تفوح من الزوج السكير رائحة الخمرة حتى يخيل له أن الحي كله تفوح منه هذه الرائحة الكريهة ، فمسح ما لصق بوجهه من بصاق و قال له : جزاك الله خيراً قد أكون أخطأت وجئتك في وقت غير مناسب ، و لكن سوف أعود لزيارتك في وقت آخر إن شاء الله .
فرد عليه الزوج السكير : أنا لا أريد رؤية وجهك مرة أخرى وإن عدت كسّرت رأسك ، وأغلق الباب في وجه الشاب الصالح ، وعاد إلى بيته و هو يقول الحمد لله الذى جعلني أجد في سبيل الله وفي سبيل ديني هذا البصاق وهذا الشتم وهذه الإهانة ، وكان في داخله إصرار على أن ينقذ هذه المرأة و بناتها من معاناتها . أحسَّ بأن الدنيا كلها سوف تفتح أبوابها له إذا أنقذ تلك الأسرة من الضياع . فأخذ يدعو الله لهذا السكير في مواطن الاستجابة و يطلب من الله أن يعينه على إنقاذ تلك الأسرة من معاناتها إلى الأبد ،كان الحزن يعتصر في قلبه و كان شغله الشاغل أن يرى ذلك السكير من المهتدين .
فحاول زيارته عدة مرات وفي أوقات مختلفة فلم يجد إلا ما وجد سابقاً ، حتى أنه قرر في إحدى المرات أن لا يبرح من أمام بيته إلا ويتكلم معه ، فطرق عليه الباب في يوم من الأيام فخرج إليه سكران يترنح كعادته ، وقال له : ألم أطردك من هنا عدة مرات لماذا تصر على الحضور و قد طردتك ؟!!
فقال له : هذا صحيح ، ولكنى أحبك في الله وأريد الجلوس معك لبضع دقائق و الله عز وجل يقول على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم : من عاد أخاً له في الله ناداه مناد من السماء أن طبت و طاب ممشاك و تبؤت من الجنة منزلاً .
فخجل السكير من نفسه أمام الالحاح هذه الشاب المستمر رغم ما يلقاه منه ، وقال له : و لكن أنا الآن أشرب المسكر ، وأنت يبدو في وجهك الصلاح و التقوى ولا يمكننى أن أسمح لك لكي ترى ما في مجلسي من خمور احتراماً لك.
فقال له : أدخلنى في مكانك الذى تشرب فيه الخمر ودعنا نتحدث وأنت و تشرب خمرك فأنا لم آتي إليك لكي أمنعك من الشرب بل جئت لزيارتك فقط .
فقال السكير : إذا كان الأمر كذلك فتفضل بالدخول ، فدخل لأول مرة بيته بعد أن وجد الأمرين في عدم استقباله وطرده ، و أيقن أن الله يريد شئياً بهذا الرجل .
أدخله إلى غرفته التى يتناول فيها المسكر ، وتكلم معه عن عظمة الله ، وعن ما أعد الله للمؤمنين في الجنة ، وما أعد للكافرين في النار وفي اليوم الآخر ، وفي التوبة ، وأن الله يحب العبد التائب إذا سأله الهداية ، ثم تكلم في أجر الزيارة وما إلى ذلك ، وأن الله يفرح بتوبة العبد التائب ، فإذا سأله العبد الصالح قال الله له لبيك عبدي ( مرة واحدة ) ، وإذا سأله العبد المذنب العاصي لربه قال الله له لبيك لبيك لبيك عبدي ( ثلاث مرات ) .
وكان يرى أسارير الرجل السكير تتهلل بالبشر ، وهو ينصت إليه بجوارحه كلها ، ولم يحدثه عن الخمرة وحرمتها أبداً و هو يعلم أنها أم الكبائر ، وخرج من عنده بعد ذلك دون كلمة واحدة في الخمر ، فأذن له بالخروج على أن يسمح له بين الحين و الحين بزيارته فوافق وانصرف .
بعد ذلك بأيام عاد إليه فوجده في سكره ، و بمجرد أن طرق الباب عليه رحب به وأدخله الى المكان الذى يسكر فيه كالعادة ، فتحدث ذلك الشاب عن الجنة وما عند لله من أجر للتائبين النادمين ، ولاحظ بأن السكير بدأ يتوقف عن الشرب بينما هو يتكلم فأحس أنه أصبح قريباً منه ، وأنه بدأ يكسر أصنام الكؤوس في قلبه شيئاً فشيئاً ، وأن عدم مواصلته للشرب دليل على أنه بدأ يستوعب ما يقال له ، فأخرج من جيبه زجاجة من الطيب الفاخر غالية الثمن فأهداها له وخرج مسرعاً ، وكان سعيداً بما تحقق له من هذه الزيارة من تقدم ملحوظ .
فعاد بعد أيام قليلة لهذا الرجل فوجده في حالة أخرى تماماً وان كان في حالة سكر شديدة ، و لكن هذه المرة بعد أن تكلم الشاب عن الجنة وما فيها من نعيم أخذ يبكي السكير كالطفل الصغير ويقول : لن يغفر الله لي ابداً ، لن يغفر الله لي أبداً وأنا أكره المشائخ ، وأهل الدين ، والاستقامة ، وأكره الناس جميعاً ، وأكره نفسي ، وإننى حيوان سكير لن يقبلني الله ، ولن يقبل توبتي حتى وإن تبت ، فلو كان الله يحبني ما جعلني أتعاطى المسكرات ، ولا جعلني بهذه الحالة ، وهذا الفسق والفجور الذي أعيش فيه من سنوات مضت .
فقال له الشاب الصالح و هو يحتضنه : إن الله يقبل توبتك ، وإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، وإن باب التوبة مفتوح و لن يحول بينك و بين الله أحد وإن السعادة كلها في هذا الدين ، وإن القادم سوف يكون أجمل لو سألت الله الهداية بقلب صادق مخلص ، و ما عليك إلا أن تسأل الله مخلصاً في طلب الهداية والله عز وجل يقبلك ، وأن قيمته عند الله عظيمة ، وأشار إليه بأنه على سفر الآن مع مجموعة من أصدقائه المشائخ إلى مكة المكرمة ، و عرض عليه أن يرافقهم فقال له السكير و هو منكسر القلب : ولكن أنا سكران ، وأصدقائك المشائخ لن يقبلوا بمرافقتي .
فقال له : لا عليك هم يحبونك مثلي ، ولا مانع لديهم أن ترافقهم بحالتك الراهنة ، فكل ما في الأمر هو أن نذهب إلى مكة المكرمة للعمرة ، فإذا انتهينا عدنا إلى مدينتنا مرة اخرى ، وخلال رحلتنا سوف نسعد بوجودك بيننا .
فقال السكير : و هل تسمحون لي أن آخذ زجاجتي معي ، فأنا لا أستغني عنها لحظة واحدة .
فقال له : الشاب الصالح بكل سرور خذها معك إن كان لا بد من أخذها .
كانت نظرة هذا الشاب الصالح بعيدة جداً جداً رغم خطورة أن يحمل زجاجة الخمر في سيارته ، وأن يحمل معه شخصاً سكيراً و سكران في نفس الوقت ، فالطريق إلى مكة ممتلئ بدوريات الشرطة ، ولكنه قرر المجازفة من أجل إنقاذ هذه المرأة و أبناءها ، فمن يسعى لتحقق هدف عظيم تهون عنده الصغائر .
فقال له : قم الآن ، واغتسل ، وتؤضأ ، و البس إحرامك .. فخرج إلى سيارته وأعطاه ملابس الإحرام الخاصة به على أن يشترى هو غيرها فيما بعد ، فأخذها ودخل إلى داخل البيت ، وهو يترنح ، وقال لزوجته : أنا سوف أذهب إلى مكة للعمرة مع المشائخ ، فتهللت أسارير زوجته فرحاً بهذا الخبر ، و أعدت حقيبته ، ودخل إلى الحمام يغتسل ، وخرج ملتفاً بإحرامه وهو مازال في حالة سكره ، وكان الرجل الشاب الصالح البطل المغامر يستعجله حتى لا يعود في كلامه فلا يرافقهم ، ولم يصدق أن تأتي هذه الفرصة العظيمة لكي ينفرد به عدة أيام ويبعده عن السكر ، وأصدقاء السوء ، فلو أفاق فربما لن يذهب معهم أو يدخل الشيطان له من عدة أبواب فيمنعه من مرافقته ، فعندما خرج إليه أخذه ووضعه في سيارته ، وذهب مسرعاً به بعد أن اتصل على أصدقائه من الأخوة الملتزمين الذين تظهر عليهم سمات الدين والصلاح والتقوى لكي يمر عليهم في منازلهم و يصطحبهم في هذه الرحلة التاريخية .
انطلقت السيارة باتجاه مكة المكرمة ، وكان الشاب الصالح على مقودها و بجواره السكير ، وفي المقعدة الخلفية اثنان من أصدقائه الذين مرَّ عليهم وأخذهم معه ، فقرأوا طوال الطريق قصار السور وبعض الأحاديث النبوية من صحيح البخاري وكلها في التوبة ، وفي الترغيب والترهيب بما عند الله من خير جزيل و في فضائل الأعمال .
كان السكير لا يعرف قراءة الفاتحة و ( يلخبط ) بها ويكسر فيها كيفما شاء ، وعندما يأتي الدور عليه يقرأونها قبله ثلاثة مرات حتى يصححوا له ما أخطأ فيها بدون أن يقولون له أنت أخطأت ، وأنه لا يعقل أن يخطىء أحد في الفاتحة ، و هكذا حتى انتهوا من قراءة قصار السور عدة مرات ، و قرأوا الأحاديث المختلفة في فضائل الأعمال ، وهو يسمع ولا يبدي حراك ، وقبل الوصول إلى مكة قرروا الثلاثة الأصدقاء أن لا يدخلوا مكة إلا وقد أفاق تماماً صاحبهم من السكر ، فقرروا المبيت في إحدى الاستراحات على الطريق بحجة أنهم تعبوا ويريدون النوم إلى الصباح ، ومن ثم يواصلون مسيرهم ، وكان يلح عليهم بأنه بإمكانه قيادة السيارة على أن يناموا هم أثناء قيادته السيارة ، فهو لن يأتيه النوم أبدا فقالوا له : جزاك الله خير وبارك الله فيك ، نحن نريد أن نستمتع برحلتنا هذه بصحبتك ، وأن نقضي أكبر وقت ممكن مع بعضنا البعض. فوافق على مضض ، ودخلوا إحدى الاستراحات المنتشرة على الطريق ، و أعدوا فراش صاحبهم السكير وجعلوه بينهم حتى يرى ما سوف يفعلونه ، فقاموا يتذاكرون آداب النوم ، وكيف ينامون على السنة كما كان المصطفى عليه الصلاة و السلام ينام ، وكان ينظر إليهم ، ويقلدهم ، وما هي إلا بضع دقائق حتى نام ذلك السكير في نوم عميق .
استيقظوا الثلاثة قبل الفجر وأخذوا يصلون في جوف الليل الأخير و يدعون لصاحبهم الذي يغط في نومه من مفعول الكحول ، وكانوا يسجدون ويبكون بين يدي الله أن يهديه و يرده لدينه رداً جميلاً ، وبينما هو نائم إذ استيقظ ورآهم يصلون قبل الفجر ، ويبكون ، ويشهقون بين يدي الله سبحانه و تعالى ، فدخل في نفسه شئياً من الخوف ، وبدأ يستفيق من سكره قليلاً قليلاً ً، وكان يراقب ما يفعله أولئك الشباب في الليل من تحت الغطاء الذى كان يخفى به جسده الواهي وهمومه الثقيلة ، وخجله الشديد منهم ومن الله عز وجل . فأخذ يسأل نفسه كيف أذهب مع أناس صالحين يقومون الليل ويبكون من خشية الله وينامون ويأكلون على سنة المصطفى صلى الله عليه و سلم و أنا بحالة سكر ، و تتشابكت الأسئلة في رأسه حتى بدا غير قادر على النوم مرة أخرى ، بعد فترة من الزمن أذن المؤذن للفجر فعادوا إلى فرشهم وكأنهم ناموا الليل مثل صاحبهم، وما هى إلا برهة حتى أيقظوه لصلاة الفجر ، ولم يعلموا بأنه كان يراقب تصرفاتهم من تحت الغطاء ، فقام وتؤضأ ودخل المسجد معهم وصلى الفجر ، وقد كان متزناً أكثر من ذي قبل حيث بدأت علامات السكر تنجلي تماماً من رأسه ، فصلى الفجر معهم و عاد إلى الاستراحة بصحبة أصدقائه الذين أحبهم لصفاتهم الجميلة ، وتمسكهم بالدين ، وإكرامهم له ، والتعامل معه بإنسانية راقية لم يرها من قبل .
بعدها أحضروا طعام الإفطار ، وكانوا يقومون بخدمته وكأنه أمير وهم خدم لديه و يكرمونه ويسلمون على رأسه و يلاطفونه بكلمات جميلة بين الحين و الحين ، فشعر بالسعادة بينهم ، وأخذ يقارن بينهم و بين جيرانه الذين يقول بأنه يكرههم ، انفرجت أسارير الرجل بعد أن وضع الفطور ، فتذاكروا مع بعضهم البعض آداب تناول الطعام والطعام موجود بين أيديهم هو يسمع ما يُقال ، فأكلوا طعامهم وجلسوا حتى ساعة الإشراق ، فقاموا وصلوا صلاة الاشراق و عادوا إلى النوم ثانية حتى الساعة العاشرة صباحاً لكي يتأكدوا من أن صاحبهم أفاق تماماً من سكره ، ورجع طبيعياً لوضعه الطبيعى ، فانفرد بصاحبه قليلاً و قال له : كيف أخذتني وأنا سكران مع هؤلاء المشائخ الفضلاء سامحك الله .سامحك الله ، ثم إنى وجدت زجاجتي في السيارة ، فمن أحضرها ، فقال له الشاب الصالح : أنا أحضرتها بعد أن رأيتك مصرّ على أخذها وأنك لن تذهب معنا إلا بها فقال له : و هل شاهدها أصحابك ، فقال له : لا لم يشاهدوها فهي داخل كيس أسود لا يظهر منها شئياً ، فقال الحمد لله أنهم لم يشاهدوها .
تحركوا بعد ذلك إلى مكة وصاحبهم معهم ونفس ما قاموا به في بداية رحلتهم قاموا به بعد أن تحركوا فقرأوا قصار السور وبعض الأحاديث في الترغيب والترهيب أثناء رحلتهم ، ولكن لاحظوا هذه المرة أنه بدأ يحاول قراءة قصار السور بشكل أفضل من السابق ، وخلال الطريق تنوعت قراءاتهم فوصلوا إلى مكة المكرمة ودخلو إلى البيت الحرام ، وكانو يكرمون صاحبهم السكير كرماً مبالغاً فيه في بعض الأحيان أملاً في هدايته ، فطافوا وسعوا وشربوا من زمزم ، فاستأذنهم أن يذهب إلى الملتزم فأذنوا له ، وذهب ..أمسك بالملتزم و أخذ يبكي بصوت يخيل للشاب الصالح الذي كان يرافقه و يقف بجواره أن أركان الكعبة تهتز من بكاء السكير ونحيبه ، وأن دموعه أغرقت الساحة المحيطة بالكعبة ، فكان يسمع بكاءه فيبكي مثله ، ويسمع دعائه فيؤمن خلفه ..كان يئن وصاحبه يئن مثله ، كان منظراً مروعاً أن ترى منظر بهذا الشكل ، كان يدعو الله أن يقبل توبته ، ويعاهد الله أن لا يعود إلى الخمرة مرة أخرى وأن يعينه على ذلك ، فلم يكن يعرف من الدعاء غير : يارب ارحمنى ..يا رب أسرفت كثيراً فارحمنى أنت رب السموات والأرض ..إن طردتني من باب رحمتك فلمن ألتجأ ..إن لم تتب عليّ فمن سواك يرحمني ..يارب إن أبواب مغفرتك مفتوحة ، وأنا ادعوك يارب فلا تردني خائباً .
كان دعاؤه مؤثراً جداً لدرجة أنه أبكى المجاورين له ،كان بكاؤه مريراً جداً تشعر بأن روحه تصعد إلى السماء حين يدعو ربه ،كان يبكي ويستغيث حتى ظنّ صاحبه أن قلبه كاد أن ينفطر ، استمر على هذا المنوال أكثر من ساعة وهو يبكي ، وينتحب ويدعو الله وصاحبه من خلفه يبكى معه ، منظر مؤثر فعلاً حين يجهش بالبكاء .. رجلاً تجاوز الاربعين ، ومتعلق بأستار الكعبة ، وأكثر ما جعله يبكي هو أنه كان يقول : يا رب إن زوجتي أضربها وأطردها إذا غبت في سكري فتب علي يا رب مما فعلت بها ، يا رب إن رحمتك وسعت كل شئ وأسالك يا رب أن تسعني رحمتك ، يا رب إني أقف بين يديك فلا تردني صفر اليدين ، يا رب إن لم ترحمنى فمن سواك يرحمني ، يا رب إني تائب فاقبلني فقل لي يا رب لبيك لبيك لبيك عبدي ، يا رب إني أسالك لا تشح بوجهك عني ، يا رب انظر إليّ فإنني ملأت الارض بالدموع على ما كان مني ، يا رب إني بين يديك ، و ضيف عليك في بيتك الحرام فلا تعاملني بما يعاملني به البشر ، فالبشر يا ربي إن سألتهم منعوني وإن رجوتهم احتقروني ، يا رب اشرح صدري ، وأنر بصيرتي ، واجعل اللهم نورك يغشاني ، وكرّه إلي حبّ الخمور ما أحييتني ، يا رب لا تغضب مني ولا تغضب عليّ فكم أغضبتك بذنوبي التى لا تحصى وكنت أعصيك وأنت تنظر إلي ..
كان صديقه في هذه الأثناء يطلب منه الدعاء له ، فكان يزداد بكاءه ويقول يا رب أمن مثلي يطلب الدعاء ؟!! يا رب إني عصيتك خمس وعشرين عاماً فلا تتركني ولا تدعني أتخبط في الذنوب ، يا رب إنى فاسق فاجر أقف ببابك فاجعلني من عبادك الصالحين ، يا رب إني أسالك الهداية وما قرّب إليها من قول أو عمل وأنا خاشع ذليل منكسر بين يديك ، يا رب إن ذنوبي ملأت الأرض والسموات فتب عليّ يا أرحم الراحمين و اغفر جميع ذنوبي يا رب السموات و الأرض ، فيشهق ويبكي وأحيانا يغلبه البكاء فلا تسمع إلا صوت حزين متقطع من النحيب والبكاء .
أذّن المؤذن لصلاة العصر فجلسوا للصلاة والسكير التائب ما زال متعلقا بأستار الكعبة يبكي حتى أشفق عليه صديقه وأخذه إلى صفوف المصلين كي يصلي ويستريح من البكاء ..أخذه معه وهو يحتضنه كأنه أمه أو كأنه أباه فصلى ركعتين قبل صلاة العصر كانت كلها بكاء بصوت منخفض يقطع القلب و يدخل القشعريرة في أجساد من حوله ..إن دعاء زوجته في الليل قد تقبله الله و إن دعاء الشاب الصالح قد نفع وأثمر ، و إن دعاء أصدقائه في الليل له قد حقق المقصود من رحلتهم ، إن الدعاء صنع إنساناً آخر بين ليلة و ضحاها ، فبدأ يرتعد صاحبهم خوفاً من الله حين أحس بحلاوة الإيمان ، إن الدعاء في ظهر الغيب حقق النتيجة التي تدله على الهداية ، لقد أشفق عليه أصحابه في هذه الرحلة من بكاءه، انقضت الصلاة وخرجوا يبحثون عن فندق مجاور للحرم ، و لا زالت الدموع تملأ وجهه ، كان أحدهم يحفظ القرآن عن ظهر قلب هو الآخر ، و كان متواضعاً لدرجة كبيرة جداً لا تراه إلا مبتسماً ، فعندما رأى إقبال صاحبهم التائب إلى الله زاد في إكرامه و بالغ وأصر إلا أن يحمل حذاء ذلك التائب وأن يضعه تحت قدميه عند باب الحرم ، هذا التصرف من حافظ القرآن فجر في صدره أشياء لا يعلمها إلا الله بل يعجز الخيال عن وصفها حين توصف. وفعلاً حمل حذائهُ مع حذائه و خرج به إلى خارج الحرم ، ووضعهما في قدميه وهو فرح بما يقوم به ، استأجروا فندق مطل على الحرم ، وجلسوا به خمسة أيام وكان صاحبهم يتردد على الحرم في كل الصلوات ويمسك بالملتزم و يبكي ويبكي كل من حوله ، وفي الليل كان يقوم الليل و يبكي فتبكي معه الأسرة و الجدران ، ولا تكاد تراه نائماً أبداً ففي النهار يبكى في الحرم ، وفي الليل قائماً يصلي ويدعو الله بصوت يملؤه البكاء ، وبعد أن مضت رحلتهم عادوا إلى مدينتهم ، وهم في طريق العودة طلب من صديقه أن يوقف السيارة قليلاً فأوقفها بناء على طلبه فأخرج التائب زجاجة الخمر من ذلك الكيس الأسود أمام صديقه ومرافقيه وسكب ما فيها وقال لهم : اشهدوا عليّ يوم الموقف العظيم أني لن أعود إليها ثانية ، وأخذ يسكب ما فيها وهو يبكي على ذنوبه التى ارتكبها و يعدد ما فعله بأسبابها ، وكانت عيون مرافقيه تغرغر بالدموع و تحشر كلمات تنطق من أعينهم لا يعرفون كيف يعبرون عنها فكانت الدموع أبلغ من لغة الكلام فبكوا . وتحركوا بعد ذلك وهم يبكون مثله ، و بدأ الصمت يختلط بالنحيب ، وبدأ البكاء يختلط بالبكاء ، و قبل أن يصلوا إلى مدينتهم قالوا له : الآن تدخل إلى بيتك متهلل الوجه عطوفاً رحيماً بأهلك ، وأعطوه نصائح عديدة في كيفية التعامل مع الأبناء والزوجة بعد أن منَّ الله عليه بالهداية ، وأن يلزم جماعة المسجد المجاور له ، وأن يتعلم أمور دينه من العلماء الربانين ، فالله عز وجل يقبل توبه التائب ويفرح بها ، و لكن الاستمرار على الهداية و التوبة من موجبات الرحمة و الهداية ، فكان يقول : والله لن أعصى الله أبداً ، فيقولون له: إن شاء الله والدموع تملأ أعينهم .
وصل إلى بيته ودخل على زوجته وأبنائه وبناته وكان في حال غير الحال التى ذهب بها ..لم تحاول الزوجة أن تخفي فرحتها بما شاهدته ، فأخذت تبكي و تضمه إلى صدرها ، وأخذ يبكي هو الآخر ويقبّل رأسها ويقبّل أبنائه و بناته واحداً تلو الآخر وهو يبكي ، وما هى إلا فترة وجيزة حتى استقام على الصلاة في المسجد المجاور له ، وبدأت علامات الصلاح تظهر عليه ، فأصبح ذو لحية ناصفها البياض ، وبدأ وجهه يرتسم عليه علامات السعادة والسرور ، وبدا كأنه مولود من جديد .
استمر على هذا الحال فترة طويلة ، فطلب من إمام المسجد أن يساعد المؤذن في الأذان للصلاة يومياً فوافق وأصبح بعد ذلك المؤذن الرسمي لهذا المسجد بعد أن انتقل المؤذن الرئيسي إلى الرفيق الاعلى ، وبدأ يحضر حلقات العلم و الدروس و المحاضرات بالمسجد ، ثم قرر أن يحفظ القرآن فبدأ بالحفظ فحفظه كاملاً عن ظهر قلب وخلال هذه الفترة كان صديقه الشاب الحليم يزوره باستمرار ويعرفه على أهل الخير والصلاح حتى أصبح من الدعاة الى الله و اهتدى على يديه العديد من أصدقائه الذين كانوا يشربون الخمر معه فيما مضى ، وأصبح إمام للمسجد المجاور له و لا يزال بحفظ الله ورعايته الى يومنا هذا من الدعاة و إماماً لمسجد الحي .
ملاحظة : هذه القصة حقيقة و ليست من نسج الخيال و بالإمكان نشر الأسماء ولكن أصحابها لا يرغبون في ذلك .